فصل: تفسير الآيات (56- 57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (56- 57):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)}
قوله: {بئاياتنا} الظاهر عدم تخصيص بعض الآيات دون بعض، و{سَوْفَ} كلمة تذكر للتهديد قاله سيبويه. وينوب عنها السين.
وقد تقدّم معنى نصلي في أوّل السورة. والمراد: ندخلهم ناراً عظيمة. وقرأ حميد بن قيس {نَصْلِيهِمْ} بفتح النون. قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} يقال: نضج الشيء نضجاً ونضاجاً، ونضج اللحم، وفلان نضج الرأي، أي: محكمه. والمعنى: أنها كلما احترقت جلودهم بدّلهم الله جلوداً غيرها، أي: أعطاهم مكان كل جلد محترق جلداً آخر غير محترق، فإن ذلك أبلغ في العذاب للشخص؛ لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في الجلد المحتر. وقيل: المراد بالجلود: السرابيل التي ذكرها في قوله: {سَرَابِيلُهُم مّن قَطِرَانٍ} [إبراهيم: 50] ولا موجب لترك المعنى الحقيقي ها هنا، وإن جاز إطلاق الجلود على السرابيل مجازاً، كما في قول الشاعر:
كسا اللوم تيما خضرة في جلودها ** فويل لتيم من سرابيلها الخضر

وقيل: المعنى: أعدنا الجلد الأوّل جديداً، ويأبى ذلك معنى التبديل. قوله: {لِيَذُوقُواْ العذاب} أي: ليحصل لهم الذوق الكامل بذلك التبديل. وقيل: معناه: ليدوم لهم العذاب، ولا ينقطع، ثم أتبع وصف حال الكفار بوصف حال المؤمنين.
وقد تقدّم تفسير الجنات التي تجري من تحتها الأنهار.
قوله: {لَّهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ} أي: من الأدناس التي تكون في نساء الدنيا، والظل الظليل الكثيف الذي لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحرّ، والسموم، ونحو ذلك، وقيل: هو مجموع ظلّ الأشجار، والقصور. وقيل: الظلّ الظليل: هو الدائم الذي لا يزول، واشتقاق الصفة من لفظ الموصوف للمبالغة، كما يقال: ليل أليل.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عمر في قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} قال: إذا احترقت جلودهم بدّلناهم جلوداً بيضاء أمثال القراطيس.
وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني عنه بسند ضعيف قال: قرئ عند عمر: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} الآية، فقال معاذ: عندي تفسيرها تبدّل في ساعة مائة مرة، فقال عمر: هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأخرجه أبو نعيم في الحلية، وابن مردويه أن القائل كعب، وأنه قال: تبدّل في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة.
وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود أن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس في قوله: {ظِلاًّ ظَلِيلاً} قال: هو ظل العرش الذي لا يزول.

.تفسير الآية رقم (58):

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}
هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع؛ لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس في جميع الأمانات، وقد روي عن علي، وزيد بن أسلم، وشهر بن حوشب أنها خطاب لولاة المسلمين، والأوّل أظهر، وورودها على سبب، كما سيأتي، لا ينافي ما فيها من العموم، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما تقرر في الأصول، وتدخل الولاة في هذا الخطاب دخولاً أوّليا، فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات، وردّ الظلامات، وتحرّي العدل في أحكامهم، ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب، فيجب عليهم ردّ ما لديهم من الأمانات، والتحري في الشهادات والأخبار. وممن قال بعموم هذا الخطاب: البراء بن عازب، وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، واختاره جمهور المفسرين، ومنهم ابن جرير، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها: الأبرار منهم والفجار، كما قال ابن المنذر. والأمانات جمع أمانة، وهي: مصدر بمعنى المفعول.
قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} أي: وإن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. والعدل: هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا الحكم بالرأي المجرد، فإن ذلك ليس من الحق في شيء، إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله، فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص، وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله، ولا بما هو أقرب إليهما، فهو لا يدري ما هو العدل؛ لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته، فضلاً عن أن يحكم بها بين عباد الله. قوله: {نِعِمَّا} {ما} موصوفة أو موصولة، وقد قدّمنا البحث في مثل ذلك.
وقد أخرج ابن مردويه، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، وقبض مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة، فنزل جبريل عليه السلام بردّ المفتاح، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة، وردّه إليه، وقرأ هذه الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن عساكر، عن ابن جريج: أن هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة لما قبض منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة، فدعاه، ودفعه إليه.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن أبي شيبة، عن علي قال: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك، فحقّ على الناس أن يسمعوا له، وأن يطيعوا، وأن يجيبوا إذا دعوا.
وأخرج أبو داود، والترمذي، والحاكم، والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أدّ الأمانة لمن ائتمنك، ولا تخن من خانك» وقد ثبت في الصحيح أن من خان إذا اؤتمن، ففيه خصلة من خصال النفاق.

.تفسير الآية رقم (59):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)}
لما أمر سبحانه القضاة، والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق، أمر الناس بطاعتهم ها هنا، وطاعة الله عزّ وجلّ هي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه. وأولي الأمر هم: الأئمة، والسلاطين، والقضاة، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد: طاعتهم فيما يأمرون به، وينهون عنه ما لم تكن معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال جابر بن عبد الله، ومجاهد: إن أولي الأمر، هم: أهل القرآن والعلم، وبه قال مالك والضحاك.
وروي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن كيسان: هم أهل العقل والرأي، والراجح القول الأوّل.
قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَئ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} المنازعة المجاذبة، والنزع: الجذب، كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها، والمراد: الاختلاف، والمجادلة، وظاهر قوله: {فِي شَئ} يتناول أمور الدين والدنيا، ولكنه لما قال: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} تبين به أن الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين دون أمور الدنيا، والردّ إلى الله: هو الردّ إلى كتابه العزيز، والردّ إلى الرسول: هو الردّ إلى سنته المطهرة بعد موته، وأما في حياته، فالردّ إليه سؤاله، هذا معنى الردّ إليهما. وقيل: معنى الردّ أن يقولوا: الله أعلم، وهو قول ساقط، وتفسير بارد، وليس الردّ في هذه الآية إلا الرد المذكور في قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
قوله: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} فيه دليل على أن هذا الرد متحتم على المتنازعين، وإنه شأن من يؤمن بالله واليوم الآخر، والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الردّ المأمور به {خَيْرٌ} لكم {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي: مرجعاً، من الأول آل يؤول إلى كذا، أي: صار إليه؛ والمعنى: أن ذلك الردّ خير لكم، وأحسن مرجعاً ترجعون إليه. ويجوز أن يكون المعنى أن الردّ أحسن تأويلاً من تأويلكم الذي صرتم إليه عند التنازع.
وقد أخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن ابن عباس في قوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدّي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، وقصته معروفة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن عطاء في الآية قال: طاعة الله والرسول اتباع الكتاب والسنة {وَأُوْلِى الأمر} قال: أولى الفقه، والعلم.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن أبي هريرة، قال: {وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} هم: الأمراء، وفي لفظ هم: أمراء السرايا.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن جابر بن عبد الله في قوله: {وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} قال: أهل العلم.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد نحوه.
وأخرج ابن شيبة، وابن جرير، عن أبي العالية نحوه أيضاً.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ في شَئ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} قال: إلى كتاب الله، وسنة رسوله. ثم قرأ: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن ميمون بن مهران في الآية قال: الردّ إلى الله الردّ إلى كتابه، والردّ إلى رسوله ما دام حياً، فإذا قبض فإلى سنته.
وأخرج ابن جرير، عن قتادة، والسدي مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في قوله: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} يقول: ذلك أحسن ثواباً وخير عاقبة.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} قال: وأحسن جزاءً.
وقد وردت أحاديث كثيرة في طاعة الأمراء ثابتة في الصحيحين وغيرهما، مقيدة بأن يكون ذلك في المعروف، وأنه لا طاعة في معصية الله.

.تفسير الآيات (60- 65):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)}
قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ} فيه تعجيب لرسول الله من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: القرآن، وما أنزل على من قبله من الأنبياء، فجاءوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ويبطلها من أصلها، ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلاً، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت، وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله، وعلى من قبله أن يكفروا به، وسيأتي بيان سبب نزول الآية، وبه يتضح معناها.
وقد تقدّم تفسير الطاغوت، والاختلاف في معناه. قوله: {وَيُرِيدُ الشيطان} معطوف على قوله: {يُرِيدُونَ} والجملتان مسوقتان لبيان محل التعجب، كأنه قيل: ماذا يفعلون؟ فقيل: يريدون كذا، ويريد الشيطان كذا. وقوله: {ضَلاَلاً} مصدر للفعل المذكور بحذف الزوائد كقوله: {والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] أو مصدر لفعل محذوف دلّ عليه الفعل المذكور، والتقدير: ويريد الشيطان أن يضلهم فيضلون ضلالاً. والصدود: اسم للمصدر، وهو الصدّ عند الخليل، وعند الكوفيين أنهما مصدران، أي: يعرضون عنك إعراضاً.
قوله: {فَكَيْفَ إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} بيان لعاقبة أمرهم، وما صار إليهم حالهم، أي: كيف يكون حالهم {إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ} أي: وقت إصابتهم، فإنهم يعجزون عند ذلك، ولا يقدرون على الدفع. والمراد: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ما فعلوه من المعاصي التي من جملتها التحاكم إلى الطاغوت {ثُمَّ جَاءوكَ} يعتذرون عن فعلهم، وهو عطف على {أصابتهم} وقوله: {يَحْلِفُونَ} حال، أي: جاءوك حال كونهم حالفين {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} أي: ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة، والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك.
وقال ابن كيسان: معناه: ما أردنا إلا عدلاً، وحقاً مثل قوله: {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} [التوبة: 107] فكذبهم الله بقوله: {أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا في قُلُوبِهِمْ} من النفاق والعداوة للحق. قال الزجاج: معناه: قد علم الله أنهم منافقون {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي: عن عقابهم. وقيل عن قبول اعتذارهم: {وَعِظْهُمْ} أي: خوّفهم من النفاق {وَقُل لَّهُمْ في أَنفُسِهِمْ} أي: في حق أنفسهم. وقيل: معناه: قل لهم خالياً بهم ليس معهم غيرهم {قَوْلاً بَلِيغاً} أي: بالغاً في وعظهم إلى المقصود مؤثراً فيهم، وذلك بأن توعدهم بسفك دمائهم، وسبي نسائهم، وسلب أموالهم {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ} {من} زائدة للتوكيد {إلاَّ لِيُطَاعَ} فيما أمر به ونهى عنه {بِإِذُنِ الله} بعلمه. وقيل بتوفيقه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بترك طاعتك، والتحاكم إلى غيرك {جَاءوكَ} متوسلين إليك متنصلين عن جناياتهم، ومخالفتهم {فاستغفروا الله} لذنوبهم، وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعاً لهم، فاستغفرت لهم، وإنما قال: {واستغفر لَهُمُ الرسول} على طريقة الالتفات لقصد التفخيم لشأن الرسول صلى الله عليه وسلم {لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً} أي: كثير التوبة عليهم والرحمة لهم.
قوله: {فَلاَ وَرَبّكَ}. قال ابن جرير: قوله: {فَلا} ردّ على ما تقدم ذكره، تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك، ثم استأنف القسم بقوله: {وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} وقيل: إنه قدّم {لا} على القسم اهتماماً بالنفي، وإظهاراً لقوته، ثم كرره بعد القسم تأكيداً، وقيل: لا مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي، والتقدير: فوربك لا يؤمنون، كما في قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم} [الواقعة: 75] {حتى يُحَكّمُوكَ} أي: يجعلوك حكماً بينهم في جميع أمورهم لا يحكمون أحداً غيرك وقيل: معناه: يتحاكمون إليك، ولا ملجئ لذلك {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} أي: اختلف بينهم واختلط، ومنه الشجر لاختلاف أغصانه، ومنه قول طرفة:
وهم الحكام أرباب الهدى ** وسعاة الناس في الأمر الشجر

أي: المختلف، ومنه: تشاجر الرماح، أي: اختلافها {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ} قيل: هو معطوف على مقدّر ينساق إليه الكلام، أي: فتقضي بينهم، ثم لا يجدوا. والحرج: الضيق، وقيل: الشك، ومنه قيل للشجر الملتفّ: حرج وحرجة، وجمعها حراج. وقيل: الحرج: الإثم، أي: لا يجدون في أنفسهم إثماً بإنكارهم ما قضيت {وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً} أي: ينقادوا لأمرك، وقضائك انقياداً لا يخالفونه في شيء. قال الزجاج: {تَسْلِيماً} مصدر مؤكد، أي: ويسلمون لحكمك تسليماً لا يدخلون على أنفسهم شكاً، ولا شبهة فيه. والظاهر أن هذا شامل لكل فرد في كل حكم، كما يؤيد ذلك قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} فلا يختص بالمقصودين بقوله: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت} وهذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وأما بعد موته، فتحكيم الكتاب والسنة، وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة، أو في أحدهما. وكان يعقل ما يردّ عليه من حجج الكتاب والسنة، بأن يكون عالماً باللغة العربية، وما يتعلق بها من نحو وتصريف ومعاني وبيان عارفاً بما يحتاج إليه من علم الأصول، بصيراً بالسنة المطهرة، مميزاً بين الصحيح وما يلحق به، والضعيف وما يلحق به، منصفاً غير متعصب لمذهب من المذاهب، ولا لنحلة من النحل، ورعاً لا يحيف، ولا يميل في حكمه، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوّة، مترجم عنها، حاكم بأحكامها. وفي هذا الوعيد الشديد ما تقشعر له الجلود، وترجف له الأفئدة، فإنه أوّلاً أقسم سبحانه بنفسه مؤكداً لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله، حتى تحصل لهم غاية هي تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ} فضم إلى التحكيم أمراً آخر، وهو عدم وجود حرج، أي: حرج في صدورهم، فلا يكون مجرد التحكيم، والإذعان كافياً حتى يكون من صميم القلب عن رضاً واطمئنان وانثلاج قلب وطيب نفس، ثم لم يكتف بهذا كله، بل ضمّ إليه قوله: {وَيُسَلّمُواْ} أي: يذعنوا، وينقادوا ظاهراً وباطناً، ثم لم يكتف بذلك، بل ضم إليه المصدر المؤكد، فقال: {تَسْلِيماً} فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم، ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه، ويسلم لحكم الله وشرعه، تسليماً لا يخالطه ردّ، ولا تشوبه مخالفة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني بسند قال السيوطي: صحيح عن ابن عباس، قال: كان برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه، فتنافر إليه ناس من المسلمين، فأنزل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ} الآية.
وأخرج ابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه قال: كان الجلاس بن الصامت قبل توبته، ومعقب بن قشير، ورافع بن زيد، كانوا يدّعون الإسلام، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعوهم إلى الكهان حكام الجاهلية، فنزلت الآية المذكورة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت} قال: الطاغوت رجل من اليهود كان يقال له: كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا: بل نحاكمكم إلى كعب، فنزلت الآية.
وأخرج ابن جرير، عن الضحاك مثله.
وأخرج البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم عن عبد الله بن الزبير: أن الزبير خاصم رجلاً من الأنصار قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله في شراج من الحرّة، وكانا يسقيان به كلاهما النخل. فقال الأنصاري: سرح الماء يمرّ، فأبى عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك»، فغضب الأنصاري، وقال يا رسول الله آن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك»، واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ رسول الله الأنصاري.
استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، من طريق ابن لهيعة عن الأسود: أن سبب نزول الآية أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان، فقضى بينهما، فقال المقضيّ عليه: ردنا إلى عمر، فردهما، فقتل عمر الذي قال ردّنا، ونزلت الآية، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دم المقتول، وأخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول، فذكر نحوه، وبين أن الذي قتله عمر كان منافقاً، وهما مرسلان، والقصة غريبة، وابن لهيعة فيه ضعف.